فصل: قال ابن الجوزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم قال تعالى: {وَلِيُتَبّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا} يقال: تبر الشيء تبرًا إذا هلك وتبره أهلكه.
قال الزجاج: كل شيء جعلته مكسرًا ومفتتًا فقد تبرته، ومنه قيل: تبر الزجاج وتبر الذهب لمكسره، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وباطل مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 139] وقوله: {وَلاَ تَزِدِ الظالمين إلا تبارًا} [نوح: 28] وقوله: {مَا عَلَوْاْ} يحتمل ما غلبوا عليه وظفروا به، ويحتمل ويتبروا ما داموا غالبين، أي ما دام سلطانهم جاريًا على بني إسرائيل، وقوله: {تَتْبِيرًا} ذكر للمصدر على معنى تحقيق الخبر وإزالة الشك في صدقه كقوله: {وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] أي حقًا، والمعنى: وليدمروا ويخربوا ما غلبوا عليه.
ثم قال تعالى: {عسى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ} والمعنى: لعل ربكم أن يرحمكم ويعفو عنكم بعد انتقامه منكم يا بني إسرائيل.
ثم قال: {وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا} يعني: أن بعثنا عليكم من بعثنا، ففعلوا بكم ما فعلوا عقوبة لكم وعظة لتنتفعوا به وتنزجروا به عن ارتكاب المعاصي، ثم رحمكم فأزال هذا العذاب عنكم، فإن عدتم مرة أخرى إلى المعصية عدنا إلى صب البلاء عليكم في الدنيا مرة أخرى.
قال القفال: إنما حملنا هذه الآية على عذاب الدنيا لقوله تعالى في سورة الأعراف خبرًا عن بني إسرائيل: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إلى يَوْمِ القيامة مَن يَسُومُهُمْ سُوء العذاب} [الأعراف: 167] ثم قال: {وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا} أي وإنهم قد عادوا إلى فعل ما لا ينبغي وهو التكذيب لمحمد صلى الله عليه وسلم وكتمان ما ورد في التوراة والإنجيل، فعاد الله عليهم بالتعذيب على أيدي العرب.
فجرى على بني النضير وقريظة وبني قينقاع ويهود خيبر ما جرى من القتل والجلاء، ثم الباقون منهم مقهورون بالجزية لا ملك لهم ولا سلطان.
ثم قال تعالى: {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ للكافرين حَصِيرًا} والحصير فعيل فيحتمل أن يكون بمعنى الفاعل، أي وجعلنا جهنم حاصرة لهم، ويحتمل أن يكون بمعنى مفعول، أي جعلناها موضعًا محصورًا لهم، والمعنى أن عذاب الدنيا وإن كان شديدًا قويًا إلا أنه قد يتفلت بعض الناس عنه، والذي يقع في ذلك العذاب يتخلص عنه، إما بالموت وإما بطريق آخر، وأما عذاب الآخرة فإنه يكون حاصرًا للإنسان محيطًا به لا رجاء في الخلاص عنه، فهؤلاء الأقوام لهم من عذاب الدنيا ما وصفناه ويكون لهم بعد ذلك من عذاب الآخرة ما يكون محيطًا بهم من جميع الجهات ولا يتخلصون منه أبدًا. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم}
لأن الجزاء بالثواب يعود إليها، فصار ذلك إحسانًا لها.
{وإن أسأتُم فلها} أي فإليها ترجع الإساءة لما يتوجه إليها من العقاب، فرغَّب في الإحسان وحذر من الإساءة.
ثم قال تعالى: {فإذا جاءَ وعْدُ الآخرة ليسوءُوا وجُوهكم} يعني وعد المقابلة على فسادهم في المرة الثانية. وفيمن جاءهم فيها قولان: أحدهما: بختنصّر، قاله مجاهد.
الثاني: أنه انطياخوس الرومي ملك أرض نينوى، وهو قول مقاتل، وقيل إنه قتل منهم مائة ألف وثمانين ألفًا، وحرق التوراة وأخرب بيت المقدس، ولم يزل على خرابه حتى بناه المسلمون.
{وليدخلوا المسجد كما دَخلوه أوّل مرّة} يعني بيت المقدس.
{وليتبروا ما علوا تتبيرًا} فيه تأويلان:
أحدهما: أنه الهلاك والدمار.
الثاني: أنه الهدم والإخراب، قاله قطرب، ومنه قول لبيد:
وما النَّاسُ إلا عَامِلان فَعَامِلٌ ** يُتَبِّرُ مَا يَبْنِي وَآخَرُ رَافِعٌ

قوله عز وجل: {عسى ربُّكم أن يرحمكم} يعني مما حل بكم من الانتقام منكم.
{وإن عدتم عدنا} فيه تأويلان: أحدهما: إن عدتم إلى الإساءة عدنا إلى الانتقام، فعادوا. قال ابن عباس وقتادة: فبعث الله عليهم المؤمنين يذلونهم بالجزية والمحاربة إلى يوم القيامة.
الثاني: إن عدتم إلى الطاعة عدنا إلى القبول، قاله بعض الصالحين.
{وجعلنا جهنم للكافرين حصيرًا} فيه تأويلان:
أحدهما: يعني فراشًا ومهادًا، قاله الحسن: مأخوذ من الحصير المفترش.
الثاني: حبسًا يحبسون فيه، قاله قتادة، مأخوذ من الحصر وهو الحبس. والعرب تسمي الملك حصيرًا لأنه بالحجاب محصور، قال لبيد:
ومقامَةِ غُلْبِ الرِّقَابِ كَأَنَّهُمْ ** جِنٌّ لَدَى بَابِ الحَصِير قِيَامُ

اهـ.

.قال ابن عطية:

قوله: {إن أحسنتم}.
والمعنى أنكم بعملكم تؤخذون لا يكون ذلك ظلمًا ولا تسرعًا إليكم، و{وعد الآخرة} معناه من المرتين المذكورتين، وقوله: {ليسوءوا} اللام لام أمر، وقيل المعنى بعثناهم {ليسوءوا} فهي لام كي كلها، والضمير للعباد أولي البأس الشديد، وقرأ الجمهور: {ليسوءوا} بالياء جمع همزة وبين واوين، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وابن عامر: {ليسوءَ} بالياء وهمزة مفتوحة على الإفراد، وقرأ الكسائي، وهي مروية عن علي بن أبي طالب {لنسوء} بنون العظمة، وقرأ أبي بن كعب: {لنسوءن} بنون خفيفة، وهي لام الأمر، وقرأ علي بن أبي طالب {ليسوءن}، وهي لام القسم والفاعل الله عز وجل، وفي مصحف أبي بن كعب: {ليُسيء} بياء مضمومة بغير واو، وفي مصحف أنس {ليسوء وجهكم} على الإفراد، وخص ذكر {الوجوه} لأنها المواضيع الدالة على ما بالإنسان من خير أو شر، و{المسجد} مسجد بيت المقدس، وتبر معناه أفسد بقسم وركوب رأس، وقوله: {ما علوا} أي ما غلبوا عليه من الأقطار وملكوه من البلاد، وقيل {ما} ظرفية والمعنى مدة علوهم وغلبتهم على البلاد، وتبر معناه رد الشيء فتاتًا كتبر الذهب والحديد، ونحوه وهو مفتتة.
{عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)}.
يقول الله عز وجل لبقية بني إسرائيل {عسى ربكم} إن أطعتم في أنفسكم واستقمتم {أن يرحمكم}، و{عسى} ترجّ في حقهم وهذه العدة ليست برجوع دولة وإنما هي بأن يرحم المطيع منهم، وكان من الطاعة اتباعهم لعيسى ومحمد فلم يفعلوا وعادوا إلى الكفر والمعصية، فعاد عقاب الله فضرب عليهم الذل وقتلهم وأذلهم بيد كل أمة، وهنا قال ابن عباس سلط عليهم ثلاثة ملوك، والحصير فعيل من الحصر فهو بمعنى السجن أي يحصرهم، وبنحو هذا فسر مجاهد، وقتادة وغيرهما، ويقال: الحصير أيضًا من الحصر للملك ومنه قول لبيد: الكامل:
ومقامة غلب الرقاب كأنهم ** جن لدى باب الحصير قيام

ويقال لجنى الإنسان الحصيران لأنهما يحصرانه ومنه قول الطرماح: الطويل:
قليلًا تتلى حاجة ثم غولبت ** على كل معروش الحصيرين بادن

وقال الحسن البصري في الآية: أراد ما يفترش ويبسط كالحصير المعروف عن الناس.
قال القاضي أبو محمد: وذلك الحصير أيضًا هو مأخوذ، من الحصر. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {إِن أحسنتم}: أي: وقلنا لكم إِن أحسنتم فأطعتُم الله {أحسنتم لأنفسكم} أي: عاقبةُ الطاعة لكم {وإِن أسأتم} بالفساد والمعاصي {فلها} وفيه قولان.
أحدهما: أنه بمعنى: فاِليها.
والثاني: فعليها.
{فإذا جاء وعد الآخرة} جواب {فاذا} محذوف، تقديرُه: فإذا جاء وعد عقوبة المرة الآخرة من إِفسادكم، بعثناهم ليسوؤوا وجوهكم، وهذا الفساد الثاني، هو قتلهم يحيى بن زكريا، وقصدهم قتل عيسى فرُفِع، وسلَّط الله عليهم ملوك فارس والروم فقتلوهم وسبَوْهم، فذلك قوله: {ليسوؤوا وجوهكم}.
قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وحفص عن عاصم: {ليسوؤوا} بالياء على الجميع والهمز بين الواوين، والإِشارة إِلى المبعوثين. وقرأ ابن عامر، وحمزة، وأبو بكر عن عاصم: {ليسوءَ وجوهكم} على التوحيد؛ قال أبو علي: فيه وجهان.
أحدهما: ليسوءَ اللهُ عز وجل.
والثاني: ليسوء البَعْثُ.
وقرأ الكسائي: {لنسوءَ} بالنون، وذلك راجع إِلى الله تعالى.
وفيمن بَعث عليهم في المرة الثانية قولان.
أحدهما: بختنصر، قاله مجاهد، وقتادة. وكثير من الرواة يأبى هذا القول، ويقولون: كان بين تخريب بختنصر بيت المقدس، وبين مولد يحيى بن زكريا زمان طويل.
والثاني: انطياخوس الرومي، قاله مقاتل.
ومعنى {ليسوؤوا وجوهكم} أي: ليُدخِلوا عليكم الحزن بما يفعلون من قتلكم وسَبْيِكُم؛ وخصت المساءاة بالوجوه، والمراد: أصحاب الوجوه، لما يبدو عليها من أثر الحزن والكآبة.
قوله تعالى: {وليدخلوا المسجد} يعني: بيت المقدس {كما دخلوه} في المرة الأولى {وليُتَبِّروا} أي: ليدمِّروا ويخرِّبوا. قال الزجاج: يقال لكل شيء ينكسر من الزجاج والحديد والذهب: تِبر. ومعنى {ما علَوا} أي: ليدمِّروا في حال علوِّهم عليكم.
قوله تعالى: {عسى ربكم أن يرحمكم} هذا مما وُعِدوا به في التوراة. و{عسى} من الله واجبة، فرحمهم الله بعد انتقامه منهم، وعمر بلادهم، وأعاد نعمهم بعد سبعين سنة. {وإِن عدتم} إِلى معصيتنا {عُدنا} إِلى عقوبتكم.
قال المفسرون: ثم إِنهم عادوا إِلى المعصية، فبعث الله عليهم ملوكًا من ملوك فارس والروم.
قال قتادة: ثم كان آخر ذلك أن بعث الله عليهم محمدًا صلى الله عليه وسلم، فهم في عذاب إِلى يوم القيامة، فيعطُون الجزية عن يدٍ وهم صاغرون.
قوله تعالى: {وجعلنا جهنم للكافرين حصيرًا} فيه قولان.
أحدهما: سجنًا، قاله ابن عباس، والضحاك، وقتادة.
وقال مجاهد: يحصرون فيها.
وقال أبو عبيدة، وابن قتيبة: محبسًا، وقال الزجاج: {حصيرًا}: حبسًا، أخذ من قولك: حصرت الرجل، إِذا حبسته، فهو محصور، وهذا حصيره، أي: محبسه، والحصير: المنسوج، سمي حصيرًا، لأنه حصرت طاقاته بعضها مع بعض، ويقال للجَنْب: حصير، لأن بعض الأضلاع محصور مع بعض.
وقال ابن الأنباري: حصيرًا: بمعنى: حاصرة، فصرف من حاصرة إِلى حصير، كما صرف مؤلم إِلى أليم.
والثاني: فراشًا ومهادًا، قاله الحسن.
قال أبو عبيدة: ويجوز أن تكون جهنم لهم مهادًا بمنزلة الحصير، والحصير: البساط الصغير. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ} أي نفع إحسانكم عائد عليكم.
{وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} أي فعليها؛ نحو سلام لك، أي سلام عليك.
قال:
فخَرّ صريعًا لليدين وللفمِ

أي على اليدين وعلى الفم.
وقال الطبري: اللام بمعنى إلى، يعني وإن أسأتم فإليها، أي فإليها ترجع الإساءة؛ كقوله تعالى: {بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا} [الزلزلة: 5] أي إليها.
وقيل: فلها الجزاء والعقاب.
وقال الحسين بن الفضل: فلها رَبٌّ يغفر الإساءة.
ثم يحتمل أن يكون هذا خطابًا لبني إسرائيل في أول الأمر؛ أي أسأتم فحلّ بكم القتل والسَّبْيُ والتخريب ثم أحسنتم فعاد إليكم الملك والعُلُوّ وانتظام الحال.
ويحتمل أنه خوطب بهذا بنو إسرائيل في زمن محمد صلى الله عليه وسلم؛ أي عرفتم استحقاق أسلافكم للعقوبة على العصيان فارتقبوا مثله.
أو يكون خطابًا لمشركي قريش على هذا الوجه.
{فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة} من إفسادكم؛ وذلك أنهم قتلوا في المرة الثانية يحيى بن زكريا عليهما السلام، قتله مَلِكٌ من بني إسرائيل يقال له لاخت؛ قاله القُتَبِيّ.
وقال الطبري: اسمه هيردوس، ذكره في التاريخ؛ حمله على قتله امرأة اسمها أزبيل.
وقال السدّي: كان ملك بني إسرائيل يكرم يحيى بن زكريا ويستشيره في الأمر، فاستشاره الملك أن يتزوج بنت امرأة له فنهاه عنها وقال: إنها لا تحل لك؛ فحقدت أمّها على يحيى عليه السلام، ثم ألبست ابنتها ثيابًا حمراء رقاقًا وطيّبتها وأرسلتها إلى الملك وهو على شرابه، وأمرتها أن تتعرض له، وإن أرادها أبت حتى يعطيها ما تسأله؛ فإذا أجاب سألتْ أن يؤتى برأس يحيى بن زكريا في طَسْت من ذهب؛ ففعلت ذلك حتى أتي برأس يحيى بن زكريا والرأس يتكلم حتى وضع بين يديه وهو يقول: لا تحلّ لك؛ لا تحلّ لك؛ فلما أصبح إذا دمه يَغْلي، فألقى عليه التراب فغَلَى فوقه، فلم يزل يلُقي عليه التراب حتى بلغ سور المدينة وهو في ذلك يَغْلِي؛ ذكره الثعلبي وغيره.
وذكر ابن عساكر الحافظ في تاريخه عن الحسين بن عليّ قال: كان ملك من هذه الملوك مات وترك امرأته وابنته فورِث مُلْكَه أخوه، فأراد أن يتزوج امرأة أخيه، فاستشار يحيى بن زكريا في ذلك، وكانت الملوك في ذلك الزمان يعملون بأمر الأنبياء، فقال له: لا تتزوجها فإنها بَغِيّ؛ فَعُرِّفت المرأةُ أنه قد ذكرها وصرفه عنها، فقالت: من أين هذا! حتى بلغها أنه من قِبَل يحيى، فقالت: ليقتلن يحيى أو ليخرجن من ملكه، فعمَدت إلى ابنتها وصنّعتها، ثم قالت: اذهبي إلى عمك عند الملأ فإنه إذا رآك سيدعوك ويجلسك في حجره، ويقول سليني ما شئت، فإنك لن تسأليني شيئًا إلا أعطيتك، فإذا قال لك ذلك فقولي: لا أسأل إلا رأس يحيى.